27/06/2010

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وعلى صحبه وعلى التابعين له بإحسان إلى يوم الدين.. واحشرنا اللهم معه وفي زمرته وتحت لوائه، واسقنا من حوضه من يده الشريفة شربةً هنيئةً مريئةً لا نظمأ بعدها أبدًا.. ثم أما بعد..
 
إخوتي وأخواتي وأحبابي في الله، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وحديث جديد من القلب إلى القلوب في شهر له وزنه وثقله ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين، بل لا أكون مبالغًا إذا قلت إنه كان له وزنه حتى عند أهل الجاهلية قبل أن يعرفوا الإسلام.. إنه شهر رجب، شهر رجب الفرد الأصم؛ الذي له مكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان منذ دخوله يتشوق به إلى رمضان، فيقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان"، ولنا في هذا حديث آخر، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشوَّق من رجب إلى رمضان.. فهل بدأنا الشوق لرمضان؟.
 
أما رجب ففيه حادثة هي محور حديثي في حلقتين، الحلقة الأولى عن الإسراء، والثانية- بإذن الله تعالى- عن المعراج.. واليوم حديثنا عن الإسراء.
 
يدور الزمان دورته؛ ليعود شهر رجب على الأمة الإسلامية؛ ليذكِّرها إن كانت قد نسيت، فما بالكم والأحداث ساخنة والدماء سالت على الأرض وعلى سطح السفينة، سفينة الحرية في قافلة الحرية في شهر قبل رجب، فإذا ما جاء رجب وجدنا ما زلنا نذكر أن هذه الدماء سالت من كل الناس من المسلمين والمسيحيين، بل ومن اليهود الذين أرادوا رفع الحصار وكسر الحصار عن أهل غزة، فإذا جاء شهر رجب وجد الأمة- ما زالت- في توابع هذا الزلزال الذي هزَّها من المشرق إلى المغرب.
 
وحادثة الإسراء والمعراج تمَّت في ليلة واحدة، ولكنها قد فصلت بدرسين مستقلين درس الإسراء وحده في سورة الإسراء، ودرس المعراج وحده ذهب إلى سورة النجم.
 
ولهذا أمر مهم يجب على الأمة أن تنتبه إليه، عندما تجد التركيز على درس معين، الله عزَّ وجلَّ يريد أن يعلمنا وينبِّهنا إلى عدم الخلط بين الدروس والعبر بعضها وبعض ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾ (يوسف).
 
عندما يُذكر "الإسراء" وحده فهناك درس خاص ننتبه إليه.. فما الإسراء؟
إسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، درس عن الوصلة ما بين المسجدين لهما صلة ولهما مكانة عند رب العزة، ويجب أن تكون لهما هذه المكانة عند المسلمين، حتى إن الركعة في المسجد الحرام بـ100 ألف ركعة، والركعة في المسجد الأقصى بـ500 ركعة.
 
ولكن الدرس الأهم أن يذهب رسول صلى الله عليه وسلم ليصلي إمامًا بكل الأنبياء والمرسلين، هذه هي القضية المهمة التي يرسلها كل الأنبياء المرسلين إلى أممهم، ولم يبق منهم إلا بنو إسرائيل ومن جاء من نسلهم، ومن الأمة المسيحية التي بقيت مؤمنة بعيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أن جميع الأنبياء والمرسلين سلَّموا الراية لمحمد صلى الله عليه وسلم، بل صلَّوا خلفه مأمومين قبل أن تُفرض الصلاة بشكلها الحالي، إذن لبّ القضية هو الأصل ليس الشكل، ولكن اللبَّ هو الالتزام الذي أمرهم به الله عز وجل ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾ (آل عمران: من الآية 81)، هؤلاء جميع الأنبياء والمرسلين، قالوا: أقررنا، ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81)﴾، والله عز وجل خير الشاهدين، شهيد على كل شيء، بل هذه الأمة لها هذه المكانة، وستشهد على هذه الأمم يوم القيامة؛ لتقول لهم إن أنبياءكم صلُّوا خلف رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد تحمَّل هو المسئولية والراية والأمانة وحمَّلنا إياها من بعده؛ لذلك نحن نحمل الراية والأمانة والمسئولية عن كل الأمم، بل عن كل البشرية إلى يوم القيامة حتى تستشهد بنا الأمم السابقة؛ لتقول لنا عندما تكذِّب أنبياءها، ويقول لنا الأنبياء نستشهد بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إننا قد بلغناهم وقد كذبونا وقد آذونا وقد تنكَّروا لما حمَّلناهم من الأمانات، وما كلَّفناهم من التكاليف النازلة من السماء بأمر الله عز وجل؛ فتأتي الأمم لتحتج على شهادتنا، ما الذي أدراكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟.
 
نقول لهم قد أنبأنا الله عز وجل وقد أخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا، ونحن نؤمن بهذا الغيب؛ لذلك كنَّا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أول صفاتها: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)﴾ (البقرة).
 
هذا النموذج باقٍ إلى نزول عيسى عليه السلام إلى آخر الزمان، سينزل وهو على نفس العهد تابعًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، بعدما صلى خلفه مأمومًا في ليلة الإسراء، وسيعود ليصلي خلف أي إمام من أئمة المسلمين، ينزل ليجده يصلي في المسجد، فيصلي عيسى عليه الصلاة والسلام خلفه مأمومًا لهذا الإمام، تابعًا لأمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال لنا ربنا عز وجل: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)﴾ (النساء)، وقال المفسرون: قبل موت عيسى عليه السلام أو قبل موت كل واحد من أهل الكتاب، والمعنى يسع الجميع.
 
نعود إلى المشهد هذا الذي هو منبه لنا عن أمة محمد ودورها، وعن هذه الإمامة لمحمد صلى الله عليه وسلم بهذا التشريف الرباني والتكريم، وبشهادة جميع الأنبياء والمرسلين على أممهم؛ بأنهم تابعون لمحمد صلى الله عليه وسلم، مأمومون لإمامة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
 
سورة الإسراء، تحدثت عن هذا الحدث الضخم الذي قدَّمنا بعض دروسه وعبره في آية واحدة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1)﴾ (الإسراء).
 
وانتهت قصة الإسراء التي سميت السورة باسمها، هل يُعقل أن يكون هذا الدرس كله مختصرًا في آية؟.. لا.. إن هذه هي البداية، هذا هو المفتاح، أما القضية كلها.. إذا ما فُتح الباب فهو الصراع صراع الوجود، كما سماها الدكتور عبد الستار سعيد "معركة الوجود بين القرآن والتلمود"؛ لأنها ليست معركة بين محتلين وأرض محتلة أو مستعمرين ومواطنين، لا إنها قضية عقيدة وقضية إيمان، نشأت عندنا من هذا المنشأ، ولا بد أن تستمر على هذا النهج، وليست قضية سياسية ولا مهجَّرين أو حتى معابر، وإن كنا نريد لهذا الظلم أن يرتفع عن إخواننا، لكن القضية الأصلية التي نحمل رايتها حتى يحقِّقها الله عز وجل أو نهلك دونها، استعادة أرض فلسطين المقدسة إيمانيًّا وعقائديًّا وليست سياسيًّا أو جغرافيًّا.
 
نعود إلى القضية الأصلية عندما انتهت مقدمة سورة الإسراء عن الإسراء، انتقل الحديث كله عن بني إسرائيل.. لماذا؟ بل الخطاب بالقرآن مليء بالخطاب الموجه إلى بني إسرائيل مباشرةً، بالرغم من أنهم ليسوا مخاطبين بالقرآن ولكنهم سيسمعون هذا النداء ﴿يَا بَنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 40)، يا من أنتم تدعون أنكم نسل يعقوب عليه السلام، يا من دنَّستم اسمه بانتسابكم إليه في دولة مغتصبة لا أقول دولة، بل كيان مغتصب صهيوني آثم كل صفات الخسة والإجرام فيه، حتى بين عناصرهم هم، رأيتم 100 ألف من اليهود الإشكناز يقومون بالمظاهرات رافضين أن يتعلم أبناء السفرديم "اليهود السفرديم" الشرقيين مع أبنائهم في نفس المدارس، ونفس الفصول.. هذه هي العنصرية البغيضة، حتى بينهم وبين إخوانهم من اليهود، فكيف بهم مع غير إخوانهم؟ أو كيف بهم مع مَن يحاربونهم من المسلمين والمسيحيين؟، هم يحاربون كل أصحاب الديانات! بل حتى دينهم لا يبقون على خير منه، بل يستخدمونه في الصراع وفي القتل، ويدعون به ادعاءات باطلة، ينهبون بها ويسرقون بها وينتهكون بها الحرمات، ودينهم منهم براء.
 
"إسرائيل" نموذج لهذا الاسم، إنه اسم نبينا ونبي الإسلام يعقوب عليه وعلى نبينا السلام، وقد دنَّسوا هذا الاسم بنسبة هذا الكيان الغاصب إليه وهو منهم براء.
 
حتى نجمة داود التي يدعون أنهم ينسبونها لسيدنا داوود، حتى هذه الحديقة التي ينشئونها في مكان حي السلوان كاملاً بتهجير الناس وطردهم من منازلهم وتحطيم البيوت بإخراج أهلها منها لإنشاء حديقة.. هل يوجد في الدنيا ظلم أفجر من هذا؟ لماذا؟ لأن هنا كان داوود لعنهم في القرآن الكريم ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78)﴾ (المائدة). وأنت يا رب شاهد عليهم عصوا وما زالوا يعتدون.
 
نعود إلى القصة الأصلية الإسراء، هو مفتاح الحديث عن بني إسرائيل والحقد الدفين، كما قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين" (رواه ابن ماجه عن ابن عباس)، بل حقدوا عليكم بأن نزلت علينا آية واحدة، وهي ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)".
 
آية واحدة حسدونا وحقدوا علينا أن تكون لنا هذا الآية، ولم تنزل عليهم وقالوا: لو نزلت علينا معشر اليهود لجعلنا يوم نزولها عيدًا.
 
نعود إلى قضية الإسراء وبني إسرائيل في نفس السورة التي ذمَّهم فيها الله عز وجل وعاقبهم، وذكر لعنة الأنبياء والمرسلين- حتى أنبيائهم ومرسليهم- عليهم، ذكر لنا الجزء المشترك بين جميع الرسالات والنبوات، وهي القيم والأخلاقيات والعقائد الثابتة، فجاءت الوصايا العشر في سورة الإسراء، هي وبقاؤها واستمرارها وحفظ الله عز وجل لها في سور القرآن الكريم دليلٌ قاطعٌ على أن القيم والأخلاقيات الإسلامية ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾ (الأعلى)، منذ بداية الخلق منذ أن نزلت على أول الأنبياء آدم عليه السلام، قال له الله عز وجل: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: من الآية 38) وقواعد وسنن لا تتبدل، فنتعلم جميعًا أن درس الإسراء إيقاظ للهمم في مواجهة هذا الكيان الغاصب الذي رفض الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بإمامة محمد صلى الله عليه وسلم ولا بمكانته في المسجد الأقصى الذي يشهد له، وسيظل يشهد لنا وله إلى يوم القيامة أن الله عز وجل جعله إمامًا لجميع الأنبياء والمرسلين في هذا المكان، الذي يريدون أن يهدموه؛ ولذلك رب العزة قال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ (الأعراف: من الآية 167).
 
ونحن على يقين أن الله عزَّ وجلَّ منتقم بأيدينا وأيدي المسلمين، وأيدي الأحرار في العالم، بل وبأيدي هؤلاء المجرمين أنفسهم؛ لأن الله عز وجل قال: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار﴾ (الحشر: من الآية 2).
 
هذا الكيان الغاصب إلى زوال، وكل الاحتلال إلى زوال، وأمر الله قائم إلى قيام الساعة ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ﴾ (الحج: من الآية 40).