13/06/2010

أ.د / محمد بديع*

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه... وبعد،،
 
فمن أعز أيام الأمة التي تستحق أن يُحتفل بها ويُستفاد منها يوم فتح القسطنطينية؛ ذلك الأمل العظيم الذي جاهدت في سبيل تحقيقه أجيال كثيرة ودول متعاقبة من المسلمين؛ لتحقيق النبوءة النبوية الكريمة بفتح هذه المدينة العظيمة التي قال نابليون: "لو كانت هناك دولة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن؛ لتكون عاصمة لها".
 
وشاء الله أن يتحقق الوعد النبوي الكريم بفتحها بعد 7 قرون ونصف القرن، على يد السلطان الشاب محمد الفاتح سنة 753هـ/ 1453م، فتجدَّد بفتحها أمل المسلمين، بعد التراجع الذي كان قد أصابهم في الأندلس؛ ليؤذن بقيام دولة إسلامية عالمية قوية ترفع راية الإسلام وتجاهد خصومه لقرون عديدة.
 
وفي ظلال هذه الذكرى؛ فإن الأمة مدعوة لإعادة قراءة الحدث واستخلاص الدروس والعبر، ومنها على سبيل المثال:
1- لقد كان عمر السلطان محمد الفاتح يوم أن رتَّب لمعركة الفتح وخاضها وانتصر فيها؛ ثلاثة أو أربعة وعشرين عامًا، لكنه كان يحمل في قلبه رسالة عظيمة وشجاعة فائقة وطموحًا غير محدود وعزيمة لا تلين، وعندما رفض قسطنطين تسليم المدينة له قال السلطان الفاتح: "حسنًا، عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر".
 
وقد نشأ ذلك عن تربية إيمانية فائقة نالها هذا الشاب المجاهد، فقد ختم القرآن في سن مبكرة، ونشأ على حب الالتزام بالشريعة، وملأ خياله حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ" (أحمد وصححه الحاكم)، وحدثته نفسه منذ وقت مبكر بأن يكون هو الأمير الذي امتدحه النبي صلى الله عليه وسلم.
 
وقد عرف عنه اهتمامه الواسع بالعلوم والآداب ودراسته العميقة للتاريخ وسير العظماء، وإتقانه العجيب لعدد من اللغات العالمية، وحبه الكبير وتشجيعه غير المحدود لنشر العلوم وتكريم العلماء.
 
فقدَّم هذا الرجل العظيم صورةً مثاليةً وقدوةً عمليةً للشباب المتطلع لخدمة دينه ورسالته وأمته؛ فهل يدرك شبابنا هذا المعنى ويقتدون بهذا المثل الرائع؟
 
2- إن هذه التربية التي نالها محمد الفاتح لم تكن من فراغ، وإنما كانت من عمل العلماء الربانيين الذين تهيأت لهم الأسباب في الدولة العثمانية؛ لتربية الأفراد والجنود والقادة والشعب على مبادئ الإسلام وقيم الرجولة والشرف والكرامة، فلم يكن محمد الفاتح إلا واحدًا من ثمار غرسهم الرائع، ولم يكن لينجح وحده في تحقيق الفتح الكبير لولا أن هؤلاء العلماء الربانيين هيئوا الشعب والجيش من خلال تربيته على معاني الإيمان والتقوى، وتحمل الأمانة وأداء الرسالة المنوطة به، ولقد تربَّى الشعب والجيش على العقيدة الصحيحة والمبادئ الفاضلة التي ولدت فيهم الحماسة القوية وملأت نفوسهم بالعزيمة الصادقة.
 
وهذا ما يجب على الأمة أن تعيه فتطلق يد الدعاة الناصحين لتربية الأمة وتبصير الشباب برسالتهم وحفزهم إلى معالي الأمور، واستنقاذهم من مسارب الرذيلة ومهاوي الانحراف وتفاهة الاهتمامات، وعلى الدعاة أن يؤدوا رسالتهم في ذلك على أكمل وجه، ولهم قدوة في الشيخين محمد بن حمزة المشهور بـ(آق شمس الدين)، وأحمد الكوراني، فقد كانا من أهم الشيوخ الذين كان لهم أثر على محمد الفاتح.
 
3- إن هذا الفتح العظيم لم يحصل مصادفة ولا لمجرد بث الحماسة في النفوس، ولا لمجرد ضعف الدولة البيزنطية؛ بل إن السلطان محمد الفاتح تابع جهود والده السلطان العادل مراد الثاني في اتخاذ كل التدابير اللازمة للفتح العظيم، فاهتم بإقامة القلاع والحصون، وجمع الأسلحة اللازمة، وأشرف بنفسه على إنشاء أضخم مدفع في عصره، وبذل عناية فائقة بتزويد الأسطول العثماني بأكبر عدد من السفن المجهزة، ووضع سياسة خارجية في غاية الذكاء أدَّت إلى تحييد كثير من القوى المعادية من خلال المعاهدات؛ ليتفرغ لهدفه الأساسي ويُتِم إنجازه، ووضع بنفسه مع قواده الخطط الدقيقة المحكمة، والبدائل المحتملة، مع إرادة صلبة لا يتطرق إليها ضعف ولا وهن.
 
وكان يدرك أهمية تمتين الجبهة الداخلية، فبسط العدل، وشارك الشعب والجنود، واشترك بنفسه في العمليات العسكرية، ولم يتميز على شعبه وجنوده، فتعلقت قلوبهم به، وازدادوا همةً ونشاطًا وعزمًا تحت قيادته.
 
4- لما فتح محمد الفاتح القسطنطينية قدَّم صورةً عمليةً لحسن التعامل مع الآخرين، وهو في أوج عزته وسطوته وانتصاره، فقد أمر بحسن معاملة الأسرى، وافتدى كثيرًا منهم من ماله الخاص، وبخاصة الأمراء ورجال الدين النصارى.
 
كما أقر بطريرك الكنيسة (الأرثوذكسي) الذي اختاره النصارى بكامل حريتهم على امتيازه وامتياز طائفته، وأعطى كافة ملل النصارى حقوقهم المدنية وحرياتهم الكاملة، ومنحهم الرعاية الشاملة، وتسجيل ذلك في قوانين السلطنة، وجعله عهدًا مُتبعًا في الدولة لا ينقض، تُعطى للبطارقة به الوثائق "الفرامين" السلطانية، خلافًا لما كان يعاملهم به الكاثوليك من القسوة والاضطهاد، بل إن اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد في أوروبا لجئوا إلى الدولة العثمانية الذين آوتهم ووفرت لهم الحماية، فعاشوا في ظلها أحرارًا يمارسون عقائدهم بلا خوف ولا اضطهاد.
 
وقد فعل السلطان محمد الفاتح ذلك من منطلق التزامه الصادق بالإسلام العظيم، وتأسيه بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، الذين يعلمون أن حقوق غير المسلمين واجبٌ شرعيٌّ سيحاسبهم الله عزَّ وجلَّ عليه.
 
فهيا أيها المسلمون في كل مكان.. تحركوا بكل ما تملكون من وسائل وإمكانيات، وقدَّموا الصورة الحقيقية المشرقة للإسلام البريء كل البراءة من التهم الباطلة بالإرهاب والتطرف وانتقاص الحقوق.
 
ويا شباب الأمة.. اجعلوا نموذج محمد الفاتح وجيله قدوتكم، وابذلوا ما تستطيعون لإسلامكم، وانشروا دعوة الخير في العالمين، وأنتم يا شبابنا في بلاد الغرب والشرق كونوا سفراء الإسلام في هذه البلاد، وقدموا صورةً عمليةً لأخلاق الإسلام وحضارته ومبادئه التي فيها إنقاذ مستقبل البشرية من الضياع.
 
وأنتم يا حكام الأمة وقادتها.. اعلموا أن الكون لا يتحكم فيه الأمريكان، ولا يدير دفته الأوروبيون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو ملك الملوك سبحانه وتعالى، وثقوا بأن الشعوب إذا تربت على أخلاق الإسلام العظيمة ومبادئه القويمة فهي قادرة بإذن الله على كسب معاركها في كل الميادين، وكونوا على يقين أن أقصر الطرق لقلوب الشعوب هو العدل والحرية والكرامة وتحقيق الشورى وتطبيق شريعة الإسلام العظيمة في كل مناحي الحياة ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)﴾ (غافر)... والله أكبر ولله الحمد.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
 
___________
 
* المرشد العام للإخوان المسلمين.