الناس كإبلٍ مائة قلما تجد فيها راحلة..
لقد ترجَّل فارس من فرسان الدعوة إلى الله ورائد من روادها، ليس بأمريكا فحسب، بل بالعالم.. راحلة من الرواحل في طريق الخير والدعوة.. د. أحمد القاضي رحمة الله.

 وإن كثيرًا من الأمم تُعرف بتاريخها وكذلك المدن, لكن أحيانًا نرى مدينة تُعرف بأبنائها كمدينة (سوريا, حمص- مدينة خالد بن الوليد)، (العراق, بغداد, مدينة الرشيد), (بخارى, مدينة الإمام البخاري)، وكذلك مدينة بنما سيتي، كثيرًا ما تُعرف بمدينة أحمد القاضي بالدائرة الإسلامية، كأنهما صنوان متلازمان, وكذلك كان ابن هذه المدينة.

كثيرون الذين يمرون بقافلة الحياة، لكنَّ قليلين من يتركون بصماتهم في سجلِّ التاريخ، والدكتور أحمد بلا شك أحدهم.

أكاد لا أعلم أو أعرف عملاً إسلاميًّا دعويًّا بأمريكا دون أن أرى بصمةً من بصمات د. أحمد عليها بشكل مباشر أو غير مباشر. 

تعرَّفت إليه منذ ما يزيد على 25 عامًا قائدًا صلبًا, مربيًا حنونًا, قويَّ الشكيمة, وقَّافًا عند حدود الله, سخيَّ الدمعة من خشية الله، بمواقف أكثر من أن يتسع المقال لذكرها، لكنه فوق كل ذلك كريم يقف حاتم العرب إجلالاً له, ولن أبالغ إذا قلت إنني لم أسمع أو أرى بعصرنا الحاضر أكرم منه عطاءً وسخاءً. 

قاد العمل الإسلامي بأمريكا وارتقى به، ليس بطروحاته النظرية، بل بترجمته لفكره لأرض الواقع من جهد وعمل دءوب وصبر وعزيمة لا تعرف الخور, وصبر واحتساب حتى ابتُلِي في آخر عهده بمرض عضال لسنوات عمره الأخيرة؛ مما زاد من ألمه حرقةً وغيرةً وطموح أسد في قلب وجسد أنهكه المرض والعجز، فما كان منه إلا الاحتساب والرضا بأمر الله سبحانه وتعالى، حتى لاقى ربه صباح يوم 11 أبريل، أسأل الله له المغفرة والرضوان.

لا أدري عما أكتب من خصاله التي عايشتُ جزءًا منها, لكنها أكثر من أن تُكتَبَ بسطور، كان حرصه على الدعوة ليل نهار ?قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ? (الذاريات: من الآية 17) حرصًا لا يعدله شيء من حطام الدنيا.. لا يعرف القنوط إلى قلبه موطنًا.. يبث الأمل في النفوس حتى ولو كان الألم يعتصره. 

كلما نظرتَ إلى صرحٍ من صروح الإسلام في أمريكا لا بد أن ترى بعضًا من بصماته من مؤسسات اجتماعية, طبية, دعوية, مدارس, مؤسسات خيرية.. منظمات شباب.. ستجد بدون شك أنه رائدٌ من روَّاد تشكيلها أو تأسيسها أو دعمها. 

لقد كان بحق رائد العمل الإسلامي بأمريكا، بعيد البصر؛ حتى سمَّاه الكثيرون أنه وُلد قبل عصره بأمور الدعوة وحتى الطب.

كان من أول من نادى بتشكيل الحركة الإسلامية الأمريكية (ماس) والدعوة العلنية إلى الله، وشغلت قسمًا كبيرًا من حياته؛ لإحاطته بكثير من الإخوان الذين هزَّهم الكمُّ الهائل من البطش والخوف الذي عانوا منه في بلادهم.

قاد ماس قبل ولادتها فكرًا وتوجيهًا ودعوةً حتى أثمرت ما هي عليه الآن، ويحتاج هذا الجانب إلى كثير من التفصيل فيه, لكنَّ المؤكد عندي أن نهج الحركة الآن هي ثمرة من ثمرات جهده المتواصل لسنوات طويلة، ونظرياته بالعمل الدعوي تحتاج بحق لدراسة عميقة للأجيال القادمة.

أذكر بعضًا من مواقفه وهي كما أسلفت أكثر من أن تُذكر:

في خدماته الاجتماعية حدِّث ولا حرج عمن امتدت أيديه البيضاء لمساعدتهم، والله أعلم بهم، من دعم مالي, أوراق إقامة, هجرة, دعم معنوي, خلافات زوجية.. كان يومًا مشغولاً, مسافرًا لحل مشكلة زوجية، وعندما سُئل عن همِّه بهذه القضية, قال: كيف لا وعمر بن الخطاب كان يلوم نفسه على بغلةٍ عثرت على ضفاف دجلة لم يُعبَّد الطريق؛ فكيف بأخ وأخت مهدَّد منزلهما بالخراب.. كيف لا أسافر إليهما؟!!

حاضرنا يومًا أواسط عام 1989 وحدَّد لنا أن السنوات الخمس القادمة هي سنوات لتشكيل خمسين (50) مدرسة إسلامية بأمريكا، ولا يريد نقاشًا بالصعاب؛ لأن الأعمال العظيمة الصعبة لا يقوم بها إلا العظام، قائلاً: إما أن تكونوا لهذا الهدف أو أن تفسحوا الطريق لغيركم، وإنني أُشهد الله أن خلال 10 سنوات تشكَّلت بعلمي ما يقارب هذا العدد من كثيرٍ ممن حاضر بهم من أبنائه بالدعوة.

كان لا يعرف المستحيل، يؤمن بالأهداف العالية النبيلة مهما بدت شاقة، مَثَله في ذلك "من طلب العلا سهر الليالي"، وقد سهر، "ومن رام الحسناء لم يعيه المهر"، فكيف بجنة عرضها السموات والأرض؟!

رأيته يومًا مهمومًا لأنه لم يكن لديه ما يسدِّد رواتب المدرسين بالمدرسة- والمدرسة كانت كطفلة- وليس لديه ولد واحد من أسرته بالمدرسة؛ لأنهم أكبر من سنِّ المدرسة، لكن الطلاب عند الدكتور أحمد كلهم أولاده وكلهم أمانة في رقبته، ولا ينتظر جزاءً ولا شكورًا من غير رب الناس. 

كان يحب ما يحب الرسول من الشعر:

إذا القوم قالوا من فتى خلتُ               أني عُنيتُ فلم أكسلْ ولم أتلبدِ

لذلك كان حلمه أن ينقل الخير والدعوة لكل منزل وفرد في أمريكا، ينقل الإسلام لكل قلب ينبض، وكانت ثقته بالله مثلاً يُقتدى به. 

كم حدَّثنا عن عوض الله له بدلاً من الدرهم درهمين!! لم يكن محاضرًا بل كان نموذجًا حيًّا للثقة بالله والفكرة التي آمن بها وعمل لها ومات عليها.

رأيته يومًا أعطى رجلاً خمسة دولارات، وكان ذلك نصف ما يملك في ذلك اليوم, كثيرًا ما كان يُطلبُ منه مال بآخر حياته وهو عاجزٌ ماليًّا فيحيلُ الطلب إلى الله (يحوِّلْ إلى الله) قائلاً "يسألون الفقير العاجز ويدَعُون اللهَ الغنيَّ, ولا يثقون بالغني، وإني على ثقة به لا تخيب".

اشتكيت له يومًا صعوباتٍ دعويةً وهمومًا مدرسيةً، وكان ملاذ الجميع عند النوائب، فقال لي: إن الله يحب العبد الشاكر ولا يحب العبد الشاكي، وإن القائد يبرز عند المحن والهموم, فاصبر واحتسب وشمِّر وتوكل على الله، وكنت أعلم بضيق حال يده آنذاكَ.

أرجو أن يكون "د. أحمد" محمودًا عند الله كما كان محمودًا عند عباده.

غفر الله لأخينا وأستاذنا ومربينا د. أحمد القاضي، وجزاه عنا كل خير، وأدخله فسيح جنانه، وجمعنا معه على حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم.